التاريخ
تعود عبارة الطابور الخامس إلى حقبة الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، حيث تمكنت قوات الوطنيين بقيادة الجنرالين فرانسيسكو رانكو وإيميلو مولا من إخضاع منطقة الأندلس في بدايات الحرب، وبدأت في الزحف شمالا اتجاه منطقة كاستياد لامانشا حيث توجد العاصمة مدريد تحت سيطرة الجمهوريين.
توزعت قوات الوطنيين على أربعة طوابير تزحف بشكل متواز، وفي إحدى مداخلاته التوجيهية والدعائية عبر الإذاعة أثارَ الجنرال مولا مسألة وجود طابور خامس مختف داخل العاصمة مدريد ينتظر فقط وصول طلائع القوات القادمة ليشرع في تنفيذ المهام المسندة إليه لزعزعة السلطات الجمهورية القائمة وتيسير سقوط العاصمة.
أثار هذا الكشف شكوكا واسعة في صفوف الجمهوريين، وأشرع الباب أمام الاتهامات والاتهامات المضادة والتخوين، وأوجد بيئة مناسبة للتصفيات الجسدية والاغتيالات، فدب الخلاف في صفوف الجمهوريين، وإن كان كل ذلك لم يُمكن الوطنيين من دخول العاصمة على الفور حيث تطلب الأمر ثلاث سنوات تقريبا.
لكن عبارة الطابور الخامس انتشرت على نطاق واسع عبر العالم بفضل الصحافة الأنغلوساكسونية التي استحسنتها، ولاسيما أن التوتر كان مخيما في أوروبا وكانت نذر الحرب العالمية الثانية قد بدأت.
انتشار المصطلح
أسهم مناخ الحرب العالمية الثانية (1939-1945) في ازدهار عبارة الطابور الخامس، فقد كانت كل من ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية تسعيان بكل ما أوتيتا من قوة لاستمالة أكبر عدد من البلدان الأوروبية في أفق بدء الحرب، وسعت إلى التواصل مع نخب سياسية وإعلامية خاصة في فرنسا وبريطانيا لإضعاف موقف البلدين وإجبارهما على اتخاذ موقف محايد من الحملات التوسعية النازية والفاشية في أوروبا الشرقية والبلقان.
ففي فرنسا مثلا، تواصلت الاستخبارات الإيطالية مع أحزاب سياسية ومؤسسات صحيفة وشخصيات علمية معروفة بتأييدها للسلام ضمن حملة هدفها تغليبُ خيار الحياد. وبلغ الأمر بالسلطات الفرنسية حد إخضاع كافة القيادات السياسية الشيوعية وبعض أنصار الحياد للمراقبة بشكل دائم.
وازدهر من جديد استعمال مصطلح الطابور الخامس لوصف كل من يُبدي نزعة إلى الحياد أو إلى عدم إدانة تصرفات ألمانيا النازية، ورسخ أكثر مع استسلام فرنسا في صيف 1940، إذ كثر الحديث عن وجود طابور خامس سلَّم البلاد للنازية، واتهم المارشال بيتين (رئيس حكومة فيشي) بقيادة هذا الطابور الذي أدانه الجنرال ديغول بشدة في خطابه من لندن بتاريخ 18 يونيو/حزيران 1940، الذي دعا فيه إلى المقاومة ورفض الاستسلام.
ومما أكسب الحديث عن طابور خامس في الحالة الفرنسية وجاهة خطاب كان الزعيم النازي أدولف هتلر قد ألقاه عام 1932 وتحدث فيه عن وجود أصدقاء لألمانيا في كل البلدان الأوروبية تقريبا، وأردف أنَّه في بعض الحالات ستُوقع اتفاقيات سلام حتى قبل بدء الأعمال العسكرية.
لم تنطبق نبوءة هتلر هذه على فرنسا لكنها عاشت حالة شبيهة بها، فقد استسلمت ولمّا تدخل القوات النازية باريس التي كانت وقتها تتمتع بواحد من أقوى الأساطيل البحرية، وتتوفر على جيش استعماري كبير منتشر في نحو عشرين بلدا من العالم، ولديه إمكانيات عسكرية وبشرية هائلة.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، اتسع مدلول "الطابور الخامس" ليضم مروجي الإشاعات التي تهدف إلى إسقاط الأنظمة خاصة خلال فترة الحرب الباردة بين القطبين.
ولاحقا انتشر المصطلح وأصبح كلمة رائجة في الصحف والخطب السياسية، وتهمة جاهزة لتشويه صورة بعض الأطراف خاصة في أنظمة الحكم الاستبدادية.
وبعيدا عن السياسة، أصبح المصطلح ذا أهمية كبيرة في الحروب والنزاعات حيث تُسند للطابور الخامس مهام تساعد على حسم المعارك، كإثارة الرعب والفزع، وإشاعة الفوضى ونشر الشائعات مما يؤثر سلبًا على تماسك الجبهة الداخلية ويساهم في انهيار معنويات الخصوم.
العرب والطابور الخامس
شاع استعمال الطابور الخامس في عدد من وسائل الإعلام العربي التي يرى بعض المختصين أنها ظلت منذ نشأتها مسكونة بهاجس المؤامرة، إلى أن صارت المؤامرة "بعبعا مخيفا" تُفسر به كل الإخفاقات التنموية والعسكرية والسياسية.
وكان المعارضون السياسيون أكثر من يوصمون بهذه التهمة لخروجهم على إرادة السلطة ولشقهم الإجماع الصوري المنعقد حولها.
وفي أتون المواجهة مع إسرائيل في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كانت معارضة النظام السياسي (خاصة في مصر وسوريا) صنوًا للعمالة للأجنبي، ويُنعت أهلها بالطابور الخامس، غير أن المواطن البسيط اكتشف مع الربيع العربي عام 2011 أن بعضا من الأنظمة العربية التي روجت لعقود لمصطلح الطابور الخامس، تعرف أنه وهم تروّجه لدى البسطاء لستر فسادها وإخفاقها المزمن.