هدم مدينة أثرية من أجل محال تجارية في ليبيا
جريمة جنائية
وفيما لم يرد رئيس مصلحة مراقبة آثار بنغازي على اتصالات "اندبندنت عربية"، أفاد المتخصص القضائي في مركز الخبرة القضائية بوحدة الآثار عبدالحفيظ فرج المسلاتي بأن "الوقت تأخر للحديث في تلك القضية لأن المصلحة هي المسؤولة عن حماية المواقع الأثرية وهي من فرط منذ البداية في جزء من المدينة الإغريقية يوسبريدس لمصلحة أحد الأندية الرياضية الليبية المعروفة بمبرر أنه لا توجد به آثار، مما فتح في مرحلة تالية باب العبث ببقية أجزاء المدينة".
ووصف المسلاتي ما يحدث الآن في الموقع الأثري "يوسبريدس" بـ"الجريمة الجنائية" و"السلوك الإجرامي"، منوهاً بأن عدداً من المنظمات المحلية والعربية والدولية، على رأسها منظمة "يونيسكو"، طالبت مراراً بوقف العبث بمدينة بنغازي لكونها واحدة من بين خمس مدن أنشئت منذ نحو 601 قبل الميلاد.
وقال المتخصص القضائي بوحدة الآثار إن "ما يحدث الآن هو مسح للمدينة الإغريقية بالكامل بحجة أنها أصبحت مكباً للقمامة"، محملاً المسؤولية لجهاز مراقبة آثار بنغازي باعتباره لم يتحرك منذ البداية، مؤكداً أن "من حاول التصدي لهذه الأفعال هم المواطنون وعدد من الناشطين في المجتمع المدني".
المتحدث ذاته أوضح أنه لا يتهم جهاز مراقبة آثار بنغازي بالضلوع في هذه الجريمة، لكنه أشار إلى أن ذلك الجهاز "هو من يملك صلاحيات وقفها عن طريق الاجتماع بكل المكونات المهتمة بالموروث الثقافي في المجتمع وإصدار بيان قوي يستعرض فيه الجهات التي عبثت بهذا الموقع التاريخي منذ البداية".
ويرى المسلاتي أن مسح هذا الموقع الأثري هو بمثابة مسح لتاريخ بنغازي، حيث كان من المقرر أن تنفذ بها الجمعية الليبية الإنجليزية عدداً من المقترحات لكونها مدينة تاريخية من الطراز الأول، لكن الفساد المالي هو المتسبب الرئيس في الكارثة الحالية.
وأشار إلى أن "ما يحدث للمدينة الإغريقية يوسبريدس سببه الرئيس عدم امتلاك صناع القرار في ليبيا لثقافة الموروث الثقافي وكيفية الحفاظ عليه، إذ يتعاملون مع الإرث التاريخي كأنه مجرد جزء من تاريخ الأجانب مقام فحسب على الأرض الليبية، غير أن العبث بالموروث الثقافي هو بمثابة الرصاصة التي اخترفت الأمن القومي للدولة الليبية".
نعم للتطوير لا للهدم
من جهته أكد الصحافي في مركز مدريد للإعلام محمد الصريط أن أهل بنغازي لا يرفضون التطوير وتشييد المشاريع العصرية والمدن الذكية، لكنهم في المقابل سيواصلون الوقوف أمام طمس الهوية الليبية في بنغازي أو أي مدينة أخرى.
ويقول الصريط في حديثه إلينا إن "كل حجارة في الموقع الذي يدمر الآن تحمل آثار الحضارة الإغريقية لمدينة يوسبريدس، المدينة الأولى التي بنيت عليها بنغازي الحالية"، ويضيف "كان من الضروري ترميم هذا الموقع الأثري على يد متخصصين واستثماره في المجال السياحي على غرار دول الجوار، كتونس ومصر، التي استغلت موروثها الحضاري للترويج لصورتها على المستوى الخارجي، بينما في ليبيا تهدمه الجرافات".
ونوه بأن "الدول تبحث عن هويتها وتشيد مدناً وأسواقاً تحمل بصمتها التاريخية على غرار (سوق عكاظ) أو (سوق واقف) التي استغلتها دولة قطر والمدينة القديمة للترويج لعاداتها وتقاليدها أثناء احتضانها كأس العالم لكرة القدم أواخر عام 2022".
وطالب الصريط بحق الليبيين في الحصول على المعلومة في خصوص ما يحدث ببنغازي التي تهدر هويتها عن طريق شركات إعمار مجهولة حصرت المعالم الأثرية والحضارية داخل سياج أزرق (سياج يستعمل عادة كإشارة للهدم) ونصبت داخله جرافات تعمل من دون كلل أو ملل لضرب الهوية الوطنية.
وحول شبهة ضلوع دول أجنبية في تجريد بنغازي من إرثها الحضاري، قال الصحافي بمركز مدريد للإعلام إنها "مسألة مستبعدة جداً"، متسائلاً عن العوائق التي تمثلها مدينة "يوسبريدس" الأثرية أمام أهداف السياسات الخارجية للدول الأجنبية.
المتحدث نفسه رجح أن يكون الأمر ربحياً ونفعياً بين عدد من المتنفذين في ليبيا على اعتبار أن جلب الشركات الأجنبية لإعادة الإعمار سيوفر لهم مناقصات مهمة، بخاصة أن حجم أرقام المشاريع كبير جداً مقارنة بضعف حجم التعويضات التي لا تتعدى 100 ألف دينار ليبي (20 ألف دولار أميركي) للشقة الواحدة في الأماكن القريبة من موقع المدينة الإغريقية، كما أنه لا توجد أي جهة حكومية كجهاز حماية الآثار في بنغازي أو جهاز حماية المدينة القديمة، قدمت إذناً أو تقارير لإزالة هذه المدينة الإغريقية أو غيرها من المعالم القديمة التي دمرت.
صفقة فساد
رئيس المنظمة الليبية للتنمية السياسية جمال الفلاح أكد أن رائحة صفقة مالية فاسدة مدعومة سياسياً تقف وراء تدمير هوية مدينة بنغازي وأوضح أن "ما يحدث من جرف لمدينة بنغازي القديمة ومعالمها التاريخية جريمة من قبل تيار قبلي متنفذ في المدينة، وهو على علم بأهمية هذا الإرث التاريخي والحضاري، وما يحدث من هدم لمدينة يوسبريدس الأثرية وغيرها من المعالم القديمة بهذه الطريقة وراءه صفقة فساد مالي هدفها تشييد مشاريع تجارية تحت ذريعة إعادة الإعمار، إذ إن هذه المنطقة تعتبر من أفضل المناطق في مدينة بنغازي لأنها مطلة على البحر، فالأمر لا يعدو أن يكون سوى صفقة مشرعنة".
الفلاح قال إنه كرئيس لمنظمة سياسية بحث في الأمر وتحصل على معلومات تؤكد أن هناك تركيبات قبلية معينة لديها حساسية من مدينة بنغازي القديمة (تضم الصابري وخربيش والبركة والمدينة الإغريقية يوسبريدس وغيرها من المعالم الأثرية والحضارية) تعود لصراع قديم".
يذكر أن عدداً من المواقع الأثرية والمعالم السياحية تعرضت منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011 للتدمير والنهب على غرار موقع صبراتة الأثري بسبب أعمال القتال بين المجموعات المسلحة.
ويوجد في ليبيا عدد من المواقع الأثرية والمعالم السياحية المدرجة على لائحة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) لقيمتها العالمية، من بينها آثار لبدة الكبرى وصبراتة التي تشتهر بمسارحها الرومانية وجبال أكاكوس الواقعة في عمق الصحراء الجنوبية بالقرب من الحدود مع الجزائر وغيرها من المواقع الأثرية والمعالم التاريخية التي تفتقر إلى الدعم المالي بسبب الانقسام السياسي الذي يعصف بالبلد.
اخر الاخبار
قد يعجبك ايضا