جوليان غراك يعود لـ "البيت" بعد 70 عاماً
ظل غراك وفياً لدار جوزيه كورتي طيلة حياته، وقد سبق لها أن نشرت عام 2011 عملين غير منشورين له، يومياته كضابط في كتيبة مشاة الجيش الفرنسي من الـ 10 من مايو (أيار) وحتى الثاني من يونيو (حزيران) 1940، ورواية مأخوذة من أحداث الحرب العالمية الثانية جمعتهما معاً في مجلد واحد تحت عنوان "مخطوطات الحرب"، ثم "أراضي المغيب" وهي رواية غير منتهية بدأ بكتابتها بين الأعوام 1953 و1955 وصدرت عام 2014، و"عقد حياة" التي صدرت عام2021.
يروي النص السردي "البيت" الذي وضعه غراك بين الأعوام 1946 و 1950 عن بيت أعجب الكاتب به يقع بين بلدتي آنجي وفاراد في مقاطعة اللوار غرب فرنسا، وقد كانت مخطوطة هذه السردية المنسية مخبأة في أرشيف الروائي المحفوظ في المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس، وهي ليست جزءاً من الدفاتر الـ 29 التي حظر غراك نشرها قبل عام 2027، وقد نشرت تحت إشراف الباحثة والأكاديمية الألمانية برنهيلد بوا التي عينها غراك نفسه قيّمة على إرثه الأدبي.
البيت والنافذة
وتتحدث السردية عن بيت سحرت رؤيته الخاطفة الكاتب، وقد تعود أن يلمحه مراراً من نافذة الحافلة التي كانت تقله ذهاباً وإياباً عبر الريف الفرنسي أيام الاحتلال النازي، ولعل هذه الرؤية الخاطفة هي التي دفعت بغراك إلى السير بمفرده وسط الطبيعة والغابات بغية الاقتراب من هذا البيت، مستعيداً بذلك ثيمة السعي التي تميزت بها كتاباته، ونلامس في "البيت" موهبة غراك الفذة في الوصف والتشويق وتحفيز المخيلة لاكتشاف ما هو غير مرئي.
كان جوليان غراك المولود عام 1910 في بلدة سان فلوران لو فياي يرتاد الحافلة التي تقله إلى آنجيه مروراً بفاراد مرتين في الأسبوع، إذ عمل في إحدى الثانويات خلال العام الدراسي 1941 - 1942، وهو الحائز على إجازة في التاريخ والجغرافيا، إلا أنه كان في عطلة نهاية الأسبوع يعود دوماً لبلدته الواقعة على الضفة الأخرى لنهر اللوار.
ولم يكن غراك، وهو الاسم المستعار للويس بواريه، معروفاً حين كتب نص "البيت" خارج بعض الدوائر الأدبية، غير أن نجمه سطع عام 1951 مع نيله "جائزة غونكور" التي رفض تسلمها عن روايته "شط سيرت"، وفيها روى قصة تفكك إمارة متخيلة تدعى "أورسينا" مقارباً من خلالها حقبتي صعود النازية والحرب العالمية الثانية، وقد افتتن النقاد بأسلوبه الأدبي الرفيع الذي يشكل نقيضاً لأسلوب عدد من الكتاب المعاصرين.
وأثار رفضه تسلم الجائزة جدلاً واسعاً في الصحف والمجلات الفرنسية، ويعتبر جوليان غراك آخر كبار الكتاب الكلاسيكيين الفرنسيين الحديثين، وهو معروف بنقده اللاذع لما آل إليه حال الأدب في منتصف القرن الـ 20 منذ دخوله ميدان السلع التجارية والسباق على الكتاب الأكثر مبيعاً، وسقوط القراء في فخ التضليل الإعلامي والتسويق لكتابات سطحية تتهدد الكتابة الأدبية وتسهم في تسطيح العقول، مما دفعه إلى الابتعاد من مجتمع الجوائز وتفضيل الإقامة مع شقيقته في بيته العائلي الريفي حتى وفاته.
الكاتب المتعدد
والمعروف أن غراك كتب أعمالاً أدبية عدة توزعت أنواعها على الشعر والمسرح والروايات والنقد الأدبي والسرد النثري الذي مزج بين السيرة الذاتية والتأملات في الأدب والجغرافيا، غير أنها على تنوعها حافظت على سينوغرافيا واحدة تنطلق دوماً من مكان حدودي مغلق، أكان قصراً أو فندقاً أو قلعةً أو بيتاً واقعاً على شط بحر أو أطراف غابة. داخل هذا الفضاء/الحدود أو بين الهنا والهناك تتحرك شخصيات غراك الروائية التي تظهر هي أيضاً على حدود الأشياء بسبب حرب أو عطلة أو استعداد نفسي.
وعكست جميع كتابات جوليان غراك تأثره بالرومانسية الألمانية وخيالية جول فيرن والسوريالية، ولعله من الكتاب القلائل الذين دخلت أعمالهم مجموعة "لابلياد" المرجعية وهو على قيد الحياة، في اعتراف صريح برصانة مؤلفاته التي ابتعدت، لا بل عارضت، التيارات الأدبية والفلسفية المهيمنة على الساحة الفكرية في منتصف القرن الـ 20، سواء أكانت الوجودية أو الرواية الجديدة.
حازت إذاً أعمال جوليان غراك استحساناً لم يسبق له مثيل في عصره، وترجمت إلى 26 لغة، كما درست في المقررات الجامعية وكانت موضوع عدد من الأطروحات والندوات والرسائل الأكاديمية، واللافت أن هذا الكاتب الكبير، صديق بروتون وإرنست يونغر، هو في الوقت عينه باحث نقدي، وقد تناولت دراسته الأولى التي نشرها عام 1948 شرحاً دفاعياً عن نتاج أندريه بروتون وأطروحاته المتعلقة بالسوريالية، وسانده في شروحه وتعليقاته هذه كل من موريس بلانشو وجورج باتاي وجول مونرو، في مقابل رفض جان بول سارتر وتريستان تزارا للسوريالية خلال المواجهة الشهيرة بين الطرفين حول التوجهات الجديدة للأدب الملتزم.
تنوعت عناوين كتب جوليان غراك ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر "الجميل المعتم" و"الملك صياد السمك" و"شرفة في غابة" ونصه الرائع "نثر للغريبة"، وهو عبارة عن قصيدة نثر تعكس بقوة العلاقة بين أعمال غراك الروائية المكتوبة عمداً في شكل شعري وقصيدة النثر.
وبالتزامن مع صدور كتابه "البيت" غير المنشور بعد 70 عام على كتابته، يستضيف منزل جوليان غراك معرض صور لجان لويس كيرانتوان بعنوان "منزل السيد بواريه"، سبق له أن التقطها عام 2012، فضلاً عن عدد من الندوات والمحاضرات التي تستعيد دراسة مؤلفاته.
اخر الاخبار
قد يعجبك ايضا