مارك رودين.. السويسري الشجاع الذي أصبح فلسطينياً
في الثامن من هذا الشهر، رحل فنّان التصميم والمناضل السويسري مارك رودين في مدينة بيرن، مسقط رأسه في سويسرا، عن ثمانيةٍ وسبعين عاماً (1945 ــ 2023)، لتفقد القضيّة الفلسطينية واحداً من أبرز أصدقائها والمدافعين عنها من الأوروبيين. صداقةٌ بناها الراحل على أكثر من أساس فنّي ونضاليّ، وإنْ كان من الصعب الفصل بين الفنّي والنضاليّ في تجربته، وهو الذي عُرف بقناعته السياسية الجذرية بضرورة الوقوف إلى جانب الشعوب التي تُنهَب أراضيها وتُسرَق بيوتها وتُقتَل أمام "مجتمع دوليّ" يتفرّج.
كان رودين من الشباب الذين خرجوا إلى شوارع أوروبا ربيعَ 1968 ضمن ما عُرف بالثورة الطلّابية، والتي رفع المشاركون فيها شعارات من أجل الحرّية والحقوق والمساواة والعدالة، وضد النظام القائم بعقليته القمعية والربحية والاستعمارية. هكذا، وضع المصمّم الشاب موهبته تحت خدمة حركات أوروبية يسارية، مبتكراً العديد من الملصقات واليافطات كي يتداولها رفاقه في سويسرا، ومن بعد ذلك، في باريس وميلانو وغيرهما، إلى جانب عدد من الجداريات التي خطّها على جدران هذه المدن وغيرها.
فنان ومناضل سويسري اعتبر فلسطين عنوان التضامن الأممي
هناك، في المدينة الإيطالية، ستبدأ حكايته مع فلسطين، التي كان على متابعةٍ لقضيّتها ونضال شعبها، بحُكم انخراطه في الحِراك اليساري والشيوعي الأوروبي. التقى في ميلانو، منتصف السبعينات، بشباب من "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" دعوه إلى الالتحاق بالمقاومة الفلسطينية في لبنان. دعوةً سيستجيب لها بعد سنوات، حيث سيغادر الشاب السويسري عام 1979 بلده، الذي بدأت فيه الشرطة تلاحقه بسبب مواقفه، ليصل إلى بيروت التي ستصبح مدينته لأعوام، وسيصبح فلسطينيّوها أهله وأصدقاءه، هو الذي سيحمل فيها اسماً جديداً: جهاد منصور. عمل رودين، لسنوات، مصمّماً مع "الجبهة الشعبية"، واضعاً العديد من الرسومات وأغلفة المجلّات والملصقات، التي سيتحوّل بعضها، لاحقاً، إلى جزء من أيقونات الاشتغال البصَري المناهض للاستعمار الاستيطاني الفلسطيني.
في لقاء سابق أجراه معه موقع "شباب زيورخ الثوريّ"، يعود رودين إلى جانب من يومياته التي قضاها في بيروت وطريقة عمله هناك: "عند وصولي، كان ثمّة ثلاثة فنانين يعملون رسّامين ومصمّمي ملصقات مع 'الجبهة الشعبية': فلسطينيّان وعراقي. قمنا بتشكيل مجموعة عمل بعد ذلك. وكان من المهمّ بالنسبة إليّ ألّا أمارس الفن فقط، بل الفن التطبيقي أيضاً، أو الفن اليدوي. في ذلك الوقت، لم يكن عملنا السياسي في لبنان يواجه أية مشاكل. لكنّ الأمر تغيّر مع بدء التحضير للاجتياح الإسرائيلي للبنان. كنت مستفيداً، على أيّة حال، من حرّية واسعة في ما يتعلّق بإنجاز الملصقات التي كانت تُطلَب منّي. وبشكل عام، كانت المسوّدة أو الصيغة الأولى التي كنت أنجزها تلقى استحسان الرفاق، وكان في إمكاني القيام بطباعة الملصق بعد ذلك. لم تكن لديّ أية مهام أُخرى، ما ساعدني بالتركيز تماماً على عملي الإبداعي.
كان نصّ الملصق يضم لغتين في الغالب، مثل العربية والإنكليزية، أو العربية والفرنسية أو الروسية أو الإسبانية. لأن الملصقات كانت بشكل دائم تقريباً توزَّع في كلّ بقاع الأرض. بعد ذلك، كنّا نطبع نحو خمسة آلاف نسخة من الملصق بطباعة أوفسيت".
بعد الاجتياح الإسرائيلي، سينتقل رودين مع قسم من أعضاء "الجبهة الشعبية" إلى دمشق، حيث سيصبح مخيّم اليرموك في العاصمة السورية مركز عمله وعيشه الجديد لمدّة ناهزت تسعة أعوام، قبل أن يُعتقل في أحد الأيام من عام 1991 عند وصوله إلى الحدود مع تركيا، التي ستسلّمه سلطاتها إلى الدنمارك. هنالك حُوكِم مارك رودين عام 1993، وقضى في السجن سنوات، قبل أن يُنقَل عام 1997 إلى بلده، سويسرا. لكنّ السجن والضغط السياسي لن يخفّفا من عزيمته لدعم النضال الفلسطيني ولو من خلال التظاهرات والمعارض الفنّية، التي أقام العديد منها في سويسرا وخارجها، عارضاً ملصقاته ورسوماته من أجل القضيّة الفلسطينية وبعض القضايا العادلة حول العالم.
من ربيع الطلاب عام 1968 إلى صفوف الجبهة الشعبية
وضع مارك رودين، خلال مساره، نحو مئتي ملصق وعمل فنّي داعم للقضية الفلسطينية، كما يقول في أحد لقاءاته؛ وهي أعمالٌ سعى من خلالها لإيصال صوت الشعب الفلسطيني وصوت قضيّته إلى العالَم، كما خاطب من خلالها أيضاً الفلسطينيين الذين يقول إنه كان مهتمّاً بأن توضَع ملصقاته في شوارع مدنهم ومخيّماتهم قبل أن تُلصَق في أيّ مكان آخَر.
عمله لسنوات طويلة من أجل القضية أتاح له التعامُل بصرياً مع مختلف القضايا والمناسبات والتعبير عنها، حيث وضع تصميماتٍ داعمة لانتفاضة 1987، وأُخرى تدعو للدفاع عن الأرض التي سرقها الصهاينة (ملصقه في يوم الأرض لعام 1986، الذي يمزج فيه بين امرأة وطفلها متلفّعين بالكوفية، يُعَدّ من أجمل ما أنجز)، كما حبّر ملصقات تستحضر النكبة، وأُخرى تحيي بعض مظاهر التضامن العالمي (كما هو الحال في كوبا) مع القضيّة، إلى جانب ملصق أشبه ببورتريه، جميل، يمزج فيه بين وجه غسّان كنفاني وخريطة فلسطين. وفي أغلب هذه الأعمال، ركّز الراحل على مجموعة من الرموز الضاربة عميقاً في المخيال الجمعي والثقافي حول قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه، حيث تشكّل الحجارة محور كثير من رسوماته، ومعها البرتقال، والزيتون، وتراب الأرض، إلى جانب الكوفية.
كما آمن، في رؤيته الفنية، بالبساطة وبما يُعرَف بالفن الاختصاري في التصميم، حيث يقول في اللقاء نفسه المذكور أعلاه: "أعتقد أن الملصق الجيد هو الملصق الذي يمكن استخدامه أيضاً كطابع بريدي، أي بوصفه تكثيفاً واختصاراً لرسالة ما". رسالةٌ يمكننا القول إنه كان، لعقود، من أكثر من شُغلوا بإيصالها إلى العالَم.
اخر الاخبار
قد يعجبك ايضا