تقدير موقف | تداعيات أوّليّة للحرب على غزّة
شنّت حركة حماس صباح يوم السبت السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر الجاري (2023) هجومًا مفاجئًا على مواقع إسرائيليّة، منها العسكريّة ومنها المدنيّة الواقعة على طول شريط الحدود مع غزّة (ما يُطلق عليه "غلاف غزّة"). روفق هذا الهجوم، الذي أسمته حركة حماس "طوفان الأقصى"، بإطلاق أعداد كبيرة من الصواريخ والقذائف من داخل القِطاع على المناطق الحدوديّة. في الساعات الأولى للهجوم، قُتل وأُسِر من الجنود والمواطنين أعدادٌ غير مسبوقة. تَسبَّبَ هجوم حماس في إحداث صدمة هائلة على كلّ الصُّعُد العالميّة والمحلّيّة على حدّ سواء، واعتبرته وسائل الإعلام "الإخفاق الأكبر" منذ حرب أكتوبر عام 1973، وذهب الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات عاموس يدلين إلى أبعد من ذلك في توصيفه؛ إذ قال: "الحديث ليس عن حرب عام 73، ربّما تجب العودة إلى عام 1948".
بعد الصدمة العسكريّة، أعلن رئيس الحكومة الإسرائيليّة في يوم الهجوم حالة الحرب التي لم يُعلَن عنها منذ عام 1973، إلى جانب الإعلان عن تجنيد قوّات الاحتياط، ما يقارب 360 ألف جنديّ. وصرّح نتنياهو أنّ هدف الحرب هو القضاء على قدرات حماس العسكريّة والتنظيميّة.[2] منذ إعلان الحرب، باتت القيادات الإسرائيليّة تتحدّث عن أنّ الحرب على غزّة هي "حرب وجوديّة" وَ "حرب على البيت"، وأنّها لن تقبل أن تنتهي الحرب دون القضاء على حركة حماس.
وصْفُ الحرب بأنّها وجوديّة، وكذلك رغبةُ الإسرائيليّين بالانتقام والحاجة إلى ترميم ثقة المجتمع الإسرائيليّ بالنفس وبالجيش، لهما إسقاطات ودلالات كبيرة على جميع المستويات، فهي أساس التبرير الإسرائيليّ للهجوم على غزّة وأهلها، والإشهار بإلغاء أيّ حواجز أو ضوابط للجيش في هجومه على غزّة، بحسب تصريح وزير الأمن يوآﭪ ﭼَـلانْط. إلى جانب ذلك، ثمّة إسقاطات سياسيّة وأمنيّة لهذا التوصيف، منها إقامة حكومة طوارئ وضبط التصدُّع السياسيّ الداخليّ في إسرائيل، والعمل على إسكات وكتم الانتقادات الداخليّة، وتجييش وتجنيد المجتمع والإعلام في إسرائيل، واستعمال كلّ الأدوات المتاحة لقمع حرّيّة التعبير عن الرأي وعن مواقف لا تتماشى مع الإجماع الإسرائيليّ، ولا سيّما تلك الصادرة عن المجتمع الفلسطينيّ في الداخل. في هذه الأجواء، نجد أنّ المجتمع الإسرائيليّ بأكمله يتجنّد لدعم وتعزيز المجهود الحربيّ ويضع الخلافات جانبًا، وإن كان الأمر مؤقَّتًا حتّى نهاية الحرب، إذ عندذاك ستُفتح ملفّات المساءَلة والحساب، ولا سيّما أنّها جاءت بعد التصدُّع السياسيّ في المجتمع الإسرائيليّ. وعلى الرغم من هذا، نرى أنّ المجتمع الإسرائيليّ لا يفصل بين الخطّةِ الحكوميّة لتقييد وتقويض الجهاز القضائيّ وعدم جاهزيّة الجيش، والتصدّعِ الحاصل داخل المؤسَّسة العسكريّة والسلطة التنفيذيّة، فضلًا عن اتّهام نتنياهو وحكومته بالمسؤوليّة المباشرة عن هذا الإخفاق منذ ساعات الحرب الأولى.
الحرب في سياق التصدُّع السياسيّ داخل إسرائيل
تأتي هذه الحرب في سياق مختلف لم تشهد إسرائيل مثيلًا له، ولا سيّما حالة التصدُّع داخل المجتمع الإسرائيليّ، والخلافات الحادّة بين المؤسّسة العسكريّة والحكومة، والانخفاض في ثقة الشارع الإسرائيليّ الكبيرة بالحكومة ورئيسها. فبحسب التقارير، حذّرت المؤسّسة العسكريّة والأمنيّة منذ بداية آب الماضي رئيسَ الحكومة من تداعيات التصدُّع السياسيّ على جاهزيّة الجيش لأيّ حرب قادمة، وعبّرت عن قلق بالغٍ حيال ظاهرة رفض التطوُّع في قوّات الاحتياط، وادّعت أنّها باتت تمسّ بالعصب الأساسيّ لقدرات الجيش والتدريبات.[3] إلى جانب ذلك، عرضت قيادة الأركان على نتنياهو معطيات رفض التطوُّع في قوّات الاحتياط، وبخاصّة في سلاح الجوّ، وتراجُع الكفاءات، في اجتماع خاصّ بدايةَ آب. ودار الحديث عن تراجُع قدرات الردع الإسرائيليّة، ولا سيّما أمام حزب الله.[4] وأرسلت شعبة الاستخبارات العسكريّة في الجيش الإسرائيليّ ("أَمانْ") رسائل إلى نتنياهو على خلفيّة خطّة "الإصلاح القضائيّ"، كان آخرها قُبَيْل المصادقة على قانون إلغاء "حجّة المعقوليّة"، جاء فيها أنّ الضرر الأمنيّ ليس فوريًّا فحسب بل سيكون له كذلك عواقب بعيدة المدى.[5] وعرضت القناة الـ 12 الإسرائيليّة، بدايةَ آب المنصرم، في أبرز نشراتها الإخباريّة الأسبوعيّة، صورة نتنياهو ووزير الأمن والقائد العامّ للجيش الإسرائيليّ على خلفيّة صورة نظرائهم في قيادة إسرائيل في العام 1973، للمقارنة بين الأمس واليوم، واتّهام نتنياهو بالفشل القادم.[6] وفي بداية آب (2023)، كتب الخبير في القضايا الأمنيّة والعسكريّة أوري بار يوسف، في صحيفة "هآرتس"، أنّه إذا اندلعت حرب عمّا قريب سنشتاق إلى حرب "يوم الغفران" (التسمية الإسرائيليّة لحرب عام 1973)؛ إذ ستكون أكبرَ حرب تخوضها إسرائيل منذ عام 1973 وأكثر صعوبة. وأوضَحَ أنّ قدرات وجاهزيّة الجيش مختلفة عمّا كانت عليه عام 1973، فضلًا عن تردّي جاهزيّة الجيش بسبب التصدُّع السياسيّ. والأهمّ في الأمر هو التراجع في نوعيّة وقدرات القيادات السياسيّة الحاليّة مقارَنةً بالعام 1973 والمستوى المتدنّي لثقة الجمهور بهذه القيادة.[7]
قوبلت كلّ هذه التحذيرات بالرفض والتجاهل من قِبل الحكومة الإسرائيليّة ورئيسها، الذين أصرّوا على الاستمرار في خطّة تقييد القضاء. وساد اقتناع جماعيّ لدى صُنّاع القرار في إسرائيل أنّ حركة حماس في حالة ردع عميق، وأنّها لن تجرؤ على الإقدام على أيّ عمل عسكريّ تجاه إسرائيل.
أثرُ الحربِ السياسيُّ الفوريُّ
بعد انهيار الدفاعات العسكريّة الإسرائيليّة على حدود غزّة واجتياح بلدات وقواعد عسكريّة من قِبل قوّات حركة حماس، انهارت كذلك معنويّات المجتمع الإسرائيليّ، وتهاوت الثقة بالحكومة والوزارات ومؤسَّسات الدولة. كان هذا جليًّا في جميع وسائل الإعلام الإسرائيليّة ومواقف المحلِّلين، وفي تصريحات المواطنين، ولا سيّما سكّان الجنوب. كلّهم أجمعوا أنّ إسرائيل -دولةً ومؤسَّساتٍ- فشلت فشلًا ذريعًا في الدفاع عن المواطنين.
هذا الشعور انعكس في مواقف المجتمع الإسرائيليّ، على نحوِ ما بيّنت استطلاعات الرأي العامّ بعد أيّام من بداية الحرب (استطلعت آراءَ المجتمع اليهوديّ فقط). فقد أظهر استطلاع رأي نُشِر يوم الخميس (12/10/2023) أنّ 84% من الإسرائيليّين يعتقدون أنّ القيادة السياسيّة الإسرائيليّة مسؤولة عن الإخفاق الذي أدّى إلى هجوم حماس على "غلاف غزّة".[8] وَفقًا للاستطلاع، 79% من ناخبي أحزاب الائتلاف في الانتخابات الأخيرة قالوا إنّ القيادة السياسيّة هي المسؤولة عن هذا الإخفاق. ويكاد يُجْمِع الجمهور (94%) على أنّ حكومة نتنياهو الحاليّة تتحمّل مسؤوليّة الوضع الذي أدّى إلى انهيار المنظومة الدفاعيّة كلّها عن البلدات في جنوب إسرائيل.
في استطلاع رأي حول إسقاطات الحرب السياسيّة والانتخابيّة نُشِر يوم الجمعة (13/10/2023)، وضّحت النتائج تراجُع شعبيّة رئيس الحكومة نتنياهو وحكومته وتمثيل الليكود، إذا جرت انتخابات عامّة الآن. في المقابل، ارتفع ارتفاعًا ملحوظًا تمثيلُ كتلة "المعسكر الرسميّ" برئاسة بيني ﭼـانْتْس.[9] ووَفقًا للاستطلاع، إذا جرت انتخابات عامّة فسيتراجع تمثيل حزب الليكود في الكنيست إلى 19 مقعدًا (32 مقعدًا في الكنيست اليوم)، بينما سيرتفع تمثيل "المعسكر الرسميّ" إلى 41 مقعدًا.
هذه الأجواء والمعطيات، والحاجة إلى ضبط انهيار التماسك في المجتمع، ومحاولة رفع المعنويّات الجماعيّة، وبخاصّة بعد عام من التصدُّعات السياسيّة الشديدة داخل المجتمع الإسرائيليّ، كانت الدوافعَ الأهمّ لتشكيل حكومة طوارئ لإدارة الحرب، بمشاركة حزب "المعسكر الرسميّ" بقيادة وزير الأمن ورئيس الأركان السابقيْن بِينِي ﭼـانْتْس وﭼـادي أيزنكوط، فضلًا عن أهداف نتنياهو الضيّقة من تشكيل حكومة الطوارئ، ومنها -على سبيل المثال- منع انهيار الحكومة، ومحاولات امتصاص الغضب الشعبيّ والانتقادات الحادّة، وحاجته إلى عسكريّين بجانبه في اتّخاذ القرارات العسكريّة، وشَرْعَنة هذه القرارات والخطوات القادمة في الحرب، ولا سيّما أنّ مواقف ﭼـانتس وأيزنكوط الأمنيّة لا تختلف عن مواقف الإجماع الأمنيّ الإسرائيليّ، ومن بينها اجتياح غزّة البرّيّ، والأهمّ احتمال فتح جبهة ثانية على الحدود الشماليّة مع حزب الله.
تشكيل حكومة طوارئ لم يكن بالأمر الصعب؛ إذ لطالما توحَّدَ المجتمع الإسرائيليّ في أوقات الأزمات الأمنيّة، ولطالما تجنّدت المعارَضة إلى جانب الحكومة والجيش. وهذا ما حصل منذ اللحظة الأولى لاندلاع هذه الحرب؛ فقد أعلن يئير لـﭙـيد دعمه للحكومة وللجيش، ووافق على دخول حكومة وحدة وطنيّة شريطة إخراج حزب "الصهيونيّة الدينيّة" (الذي يرأسه سموطْريتْش) وحزب "البيت اليهوديّ" (الذي يرأسه بن ﭼـﭭـير) من الحكومة، إلّا أنّ شرطه لم يُقبل. أمّا ﭼـانْتْس، فقد أعلن بوضوحٍ أنّه لا يعارض الدخول إلى حكومة طوارئ، دون أيّ شروط، على أن يكون شريكًا في اتّخاذ القرارات العسكريّة والسياسيّة داخل جسم يكون على هيئة حكومة حرب مصغَّرة، لمواصلة إدارة الحرب، على أن لا يكون الوزراء بن ﭼـﭭـير وسموطْريتْش جزءًا من المجلس المصغَّر لإدارة الحرب، وأن تكون الحكومة محدَّدة لفترة الحرب فقط، وأن تُوقَف أيّ تشريعات لا صلة لها بالحرب في فترة حكومة الطوارئ. بذلك مُنِع التقدُّم في الخطّة الحكوميّة لتقييد القضاء.[10] وفعلًا تشكّلت حكومة طوارئ صادَقَ عليها الكنيست يوم الخميس الـ 12 من تشرين الأوّل الجاري (2023). واتُّفِق أن تدير حكومة الطوارئ القوميّة المعركة وتستمرّ في عملها حتّى الإعلان عن انتهاء فترة الحرب. تُوفّر هذه الحكومة هدوءًا سياسيًّا داخليًّا وشرعيّة عسكريّة، وإنْ كانت مؤقَّتة ومشروطة بأداء الحكومة والجيش عسكريًّا على الأرض.
حركات الاحتجاج تتجنّد للمجهود الحربيّ
على نحوِ ما هو متوقَّع، تجنُّد المجتمع الإسرائيليّ للمجهود الحربيّ لم يقتصر على الالتحاق بقوّات الاحتياط، ولا على دعم أحزاب المعارَضة للحرب، بل طال جميع مَناحي العمل التي تراجع فيها وُجودُ المؤسَّسات الرسميّة والحكومة. برز على وجه الخصوص دَوْر مجموعات الاحتجاج التي انتظمت في العام الأخير ضدّ حكومة نتنياهو وطالبت بالدفاع عن "الديمقراطيّة اليهوديّة"، لتزويد هذه الاحتياجات، منها مجموعة "احتجاج الاحتياط" وَ "الأمنيّون" ومجموعات "الهايتك -التقنيّات الحديثة" وَ "قوّة كاﭘـلن" وَ "أخوة السلاح"، وقِطاع الأعمال، وجمعيّات مدنيّة وغيرهم. جميع هذه الحركات تجنّدت للإسهام في المجهود الحربيّ ومساعدة الجبهة الداخليّة وسكّان غلاف غزّة الذين فرّوا إلى مناطق داخل إسرائيل.[11] من ضمن ذلك تجنيد موارد ماليّة، ومعدّات عسكريّة لقوّات الجيش،[12] وجمْع تبرُّعات لتمويل نفقات طائرات خاصّة لإعادة الإسرائيليّين الذين خارج البلاد، وشراء وتزويد معدّات شخصيّة للجنود، وتوفير الأغذية والمنازل البديلة لسكّان الجنوب. هذه التنظيمات استبدلت الحكومة في الكثير من الحالات.
هذا مؤشّرٌ آخَر على ضعف الأداء الحكوميّ ومؤسَّسات الدولة الرسميّة التي أضعفتها سياسات نتنياهو النيولبراليّة على مدار العَقد الأخير، ودليلٌ على عدم جاهزيّة إسرائيل لدخول حرب فجائيّة بهذا الحجم، ممّا أدّى إلى توجيه انتقادات شديدة إلى الحكومة في تعاملها كذلك في الجانب المدنيّ والتعامل مع الأزمة، لا في الإخفاق العسكريّ فحسْب.
السياسة تجاه الفلسطينيّين في الداخل
أوقات الحرب في إسرائيل توضّح، على نحوٍ خاصّ، الفروق في المواقف بين المجتمع العربيّ والمجتمع الإسرائيليّ، وتزيد من التوتُّر السائد أصلًا في العلاقة مع المجتمع العربيّ. وقد بلغ هذا التوتُّر أَوْجَهُ في الأعوام الأخيرة في هبّة الكرامة عام 2021، حين خرج الفلسطينيّون في إسرائيل للتظاهر والاحتجاج ضدّ الهجومِ على غزّة واقتحاماتِ المسجد الأقصى ومحاولاتِ ترحيل السكّان العرب من حيّ الشيخ جرّاح في القدس، وذاك ما سُمِّيَ إسرائيليًّا وقتذاك "حمْلة حامي الأسوار". ردّ فعل المؤسّسة الإسرائيليّة إذّاك وضّح إلغاء أيّ حدود في تعامل المؤسَّسات الأمنيّة مع المواطنين الفلسطينيّين في أوقات الأزمات، فكيف يكون عليه الأمر وقد انضمّ محرّض أساسيّ ضدّ المجتمع الفلسطينيّ إلى الحكومة الإسرائيليّة (هو وزير الأمن القوميّ بن ﭼـﭭـير)؟!
منذ أن تولّى بن ﭼـﭭـير منصب وزير الأمن القوميّ، حدّد علنًا وبوضوح أنّ مَهمّته الأساسيّة هي منع وقوع أحداث مشابهة لِما حصل خلال "حَمْلة حامي الأسوار" عام 2021، وأنّه سيتعامل مع أيّ احتجاج بيد من حديد. وقد قرّر بن ﭼـﭭـير إقامة وَحدات من الحرس القوميّ للتعامل مع أحداث مشابهة، ولا سيّما في المدن الساحليّة التاريخيّة (المدن المختلطة)، وصرّح في مناسبات عديدة أنّ مَهَمّته الأساسيّة هي التعامل مع الخطر الماثل من المجتمع الفلسطينيّ.
منذ اليوم الأوّل لهجوم حماس على بلدات الجنوب، بدأت جوقات التحريض على المجتمع العربيّ ترفع صوتها. من ذلك تصريح نتنياهو نفسه في خطابه أنّ إسرائيل تواجه أربع جبهات، في الجنوب وفي الضفة الغربيّة وفي الشمال وفي الداخل، دون أن يحدّد ما هي جبهة الداخل، لكن كان من الواضح أنّ التلميح يشير إلى المجتمع العربيّ. كذلك أعلن وزير الأمن القوميّ أنّ الشرطة ستشتري عشرة آلاف بندقيّة رشّاش وتوزّعها على "وَحدات الحماية" في البلدات الإسرائيليّة، وعُيِّن ضابط لتنظيم "وَحدات محاربة مدنيّة" في البلدات الإسرائيليّة.[13]
علاوة على التحريض والترهيب تجاه المجتمع العربيّ، بدأت المؤسَّسة الأمنيّة بحمْلة ملاحَقة واسعة داخل المجتمع العربيّ، لمنع أيّ تعاطف أو دعم لغزّة، وإنْ كان ذاك آيات قرآنيّة تُنشر في وسائل التواصل الاجتماعيّ. وقد اعتقلت الشرطة العشرات منهم بحجّة نشر تغريدات داعمة لغزّة أو متعاطفة معها، من بينهم أشخاص مؤثّرون في وسائل التواصل الاجتماعيّ،[14] ومن بينهم قيادات محلّيّة (د. عامر الهزيل مرشّح لرئاسة بلديّة رهط -على سبيل المثال)،[15] ومنهم فنّانون (على سبيل المثال: الفنّانة دلال أبو آمنة وميساء عبد الهادي)، ومنهم أئمّة مساجد، ومنهم أعضاء في الطواقم الطبّيّة يعملون في المستشفيات الإسرائيليّة.[16] وقد برزت كذلك ملاحقة الطلبة العرب في الجامعات الإسرائيليّة، وتعليق تعليم بعض منهم أو طردهم بجريرة نشر مواقف معارِضة للحرب ومتعاطفة مع أطفال غزّة.[17]
حتّى تاريخ 17/10/2023، أوقفت الشرطة العشرات من المواطنين العرب، واعتقلت ثلاثين من بينهم منذ بداية الحرب على غزّة،[18] فيما تتصاعد وتيرة تهديد العمّال العرب بالفصل من أماكن عملهم، وذلك بشبهة قيامهم بالتضامن مع حماس، وقد بلغ الأمر في بعض ورشات البناء أنْ مُنِعَ العمّال العرب من الدخول إلى الورشات ولم يُسمَح بالدخول إلّا لليهود والعمّال الأجانب.[19] وقد وجَّه المفوَّض العامّ، يعقوﭪ شبتاي، تهديدًا صريحًا بتهجير المواطنين العرب إلى غزّة إذا تماثلوا معها، إذ قال: "من يرغب بالتضامن وتأييد غزّة، فهو مدعوّ إلى الصعود الآن إلى الحافلات المتّجهة إلى هناك"، وأضاف قائلًا إنّ الشرطة لن تسمح بالتظاهر تضامنًا مع غزّة، وإنّها ستتعامل مع الأمر بحدّة.[20]
من الواضح أنّه كلّما طال أمد الحرب ستزداد الهجمات والقمع تجاه المجتمع العربيّ، كنوع من أنواع الانتقام تجاه كلّ مَن هو عربيّ، ومحاولة لوضع قواعد تصرُّف سياسيّ مختلف للمجتمع العربيّ يحدّده الإجماع الصهيونيّ.
خاتمة
رغم الإخفاق العسكريّ الكبير، والصدمة التي تعرّضت لها إسرائيل، وعلى غرار حالات سابقة، يتوحّد المجتمع الإسرائيليّ ويتجنّد للمجهود العسكريّ، ويحاول قمع الانتقادات الداخليّة، ويحوّل أيّ انتقاد أو تعاطف مع غزّة أو موقف ضدّ الحرب إلى موقف عدائيّ ضدّ إسرائيل والتماثل مع "العدوّ" وقت الحرب. في موازاة ذلك، تبتعد إسرائيل عن طرح الأسئلة الصعبة الحقيقيّة التي أسهمت في الوصول إلى هذا الحال، وعلى رأسها الاحتلال وحصار غزّة، وإستراتيجيّة إسرائيل الرامية إلى تهميش القضيّة الفلسطينيّة ورفضها لأيّ حلّ سياسيّ، ناهيك عن التوهُّم الكبير أنّ الجوانب الاقتصاديّة والقيام بتحسين طفيف لحياة الناس اليوميّة يمكن أن يكون بديلًا عن الـمَطالب القوميّة، والمقصد عقيدة السلام الاقتصاديّ وعقليّة إدارة الصراع وتقليصه أو الهدوء الاقتصاديّ في حالة غزّة، وهو ما يظنّ المعتقدون به أنّه يشكّل بديلًا للحاجة إلى حلّ شامل وعادل للقضيّة الفلسطينيّة. هذا الجانب عليه إجماع لدى الأحزاب الإسرائيليّة كافّة، ولا يقتصر الأمر على حزب الليكود.
في الأجواء الحاليّة في إسرائيل، لم يطرح أحد هذه الأسئلة، لا الإعلام ولا المحلّلون ولا السياسيّون. الجميع لا يتحدّثون إلّا عن الحاجة إلى استعمال أقصى درجات العنف دون أيّ رادع أو قيود، ولا سيّما أنّ العالم منح إسرائيل الضوء الأخضر لتردّ كيفما تشاء؛ أيْ تَبَنّي الحلّ الأمنيّ بأقصى حدود، على الرغم من أنّ هذه الحلول أخفقت على مدار سنوات الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ ومن قَبْلها في حروبها ضدّ لبنان وحزب الله، وكذلك في تجارب شعوب أخرى.
اخر الاخبار
قد يعجبك ايضا